سورة آل عمران - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة، اقتضى ذلك عظم تشوفه صلى الله عليه وسلم إليها لعظم حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها، دعاء لا أعدل منه، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضى لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى: {قل} ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال: {يا أهل الكتاب} إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم {تعالوا} أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به {إلى كلمة} ثم وصفها بقوله: {سواء} أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه {بيننا وبينكم} ثم فسرها بقوله: {ألا نعبد إلا الله} أي لأنه الحائز لصفات الكمال، وأكد ذلك بقوله: {ولا نشرك به شيئاً} أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده.
ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون. ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد، والأجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال: {من دون الله} الذي اختص بالكمال.
ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال- مسبباً عن ذلك مشيراً بالتتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون: {فإن تولوا} أي عن الإسلام له في التوحيد {فقولوا} أنتم تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] وامتثالاً لوصيته إذ قال: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] {اشهدوا بأنا} أي نحن {مسلمون} أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره، فيوشك أن يأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة.
ولما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بدينة كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى: {بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [البقرة: 135] اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دينهم، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم، مع أن العقل يرده بأدنى التفات، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم، وكتابهم إنما نزل على نبيهم، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام، لأخذه البكورية عن أخيه بنيامين لأمر مذكور في كتابهم، والنصارى ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه، وكان دينه صلى الله عليه وسلم إنما هو الإسلام، وهو الحنيفية السمحة فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم: {يا أهل الكتاب} كالمعلل لتبكيتهم، لأن الزلة من العالم أشنع {لم تحآجون في إبراهيم} فيدعيه كل من فريقكم {و} الحال أنه {ما أنزلت التوراة والإنجيل} المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم {إلا} ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال: {من بعده} وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد، ولم يكن ما يدعونه فيهما في شريعة إبراهيم عليه السلام، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يأتي مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين.
ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم {أفلا تعقلون} أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي! ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال منبهاً لهم مكرراً التنبيه إشارة إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم: {ها أنتم هؤلاء} أي الأشخاص الحمقى، ثم بين ذلك بقوله: {حاججتم} أي قصدتم مغالبة من يقصد الرد عليكم {فيما لكم به علم} أي نوع من العلم من أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لذكر كل منهما في كتابكم وإن كان جدالكم فيهما على خلاف ما تعلمون من أحوالهما عناداً أو طغياناً {فلم تحاجون} أي تغالبون بما تزعمون أنه حجة، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة فضلاً عن أن يكون حجة {فيما ليس لكم به علم} اصلاً، لكونه لا ذكر له في كتابكم بما حاججتم فيه مع مخالفته لصريح العقل {والله} أي المحيط بكل شيء {يعلم} أي وأنتم تعلمون أن مجادلتكم في الحقيقة إنما هي مع الله سبحانه وتعالى، وتعلمون أن علمه محيط بجميع ما جادلتم فيه {وأنتم} أي وتعلمون أنكم أنتم {لا تعلمون} أي ليس لكم علم أصلاً إلا ما علمكم الله سبحانه وتعالى، هذا على تقدير كون ها في {ها أنتم} للتنبيه، ونقل شيخنا ابن الجزري في كتابه: النشر في القراءات العشر عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي الحسن الأخفش أنها بدل من همزة، وروي عن أبي حمدون عن اليزيدي أن أبا عمرو قال: وإنما هي {أأنتم} ممدودة، فجعلوا الهمزة هاء، والعرب تفعل هذا، فعلى هذا التقدير يكون استفهاماً معناه التعجيب منهم والتوبيخ لهم.
ولما وبخهم على ذلك من جهلهم نفيى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى، ونفى عنه كل شرك أيضاً، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً} أي كما ادعى اليهود {ولا نصرانياً} كما ادعى النصارى- لما تقدم من الدليل {ولكن كان حنيفاً مسلماً} وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} [البقرة: 135] بما يصدق على المسلم، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر: واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، والحنيف المائل عن كل دين باطل، والمسلم المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت، وإن شئت قلت: هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك «قل: آمنت بالله ثم استقم» انتهى.
ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزير والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال: {وما كان من المشركين} وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات.
ولما نفي عنه صلى الله عليه وسلم كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم: {إن أولى الناس} أي أقربهم وأحقهم {بإبراهيم للذين اتبعوه} أي في دينه من أمته وغيرهم، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم، ثم صرح بهذه الأمة فقال: {وهذا النبي} أي هو أولى الناس به {والذين آمنوا} أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان {والله} أي بما له من صفات الكمال- وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال: {ولي المؤمنين} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه.
ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى- جواباً لمن كأنه قال: فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل؟ {ودت طآئفة} أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً {من أهل الكتاب} حسداً لكم {لو يضلونكم} بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ {وما} أي والحال أنهم ما {يضلون} بذلك التمني أو الإضلال لو وقع {إلا أنفسهم} لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله {وما يشعرون} أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل- إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه- بيان إبطاله في دعواه، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف، ثم التصريح ببراءته، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع.
ولما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم بين تعالى في معرض التبكيت أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون، لا يعملون بعلمهم، بل يعملون بخلافه، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب: {يا أهل الكتاب} أي الذين يدعون أنهم أهل العلم {لم تكفرون} أي كفراً تجددونه في كل وقت {بآيات الله} أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً {وأنتم تشهدون} أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته؛ ثم أتبع ذلك استئنافاً آخر مثل ذلك إلا أن الأول قاصر على ضلالهم وهذا متعد إلى إضلالهم فقال: {يا آهل الكتاب لم تلبسون الحق} أي الذي لا مرية فيه {بالباطل} أي بأن تؤولوه بغير تأويله، أو تحملوه على غير محله {وتكتمون الحق} أي الذي لا يقبل تأويلاً، وهو ما تعلمون من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وتوابعها {وأنتم} أي والحال أنكم {تعلمون} أي من ذوي العلم، فأنتم تعرفون ذلك قطعاً وأن عذاب الضال المضل عظيم جداً.
ولما ذكر لبسهم دل عليه بقوله عطفاً على {ودت طائفة} مبيناً لنوع إضلال آخر: {وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي من يهود المدينة {آمنوا} أي أظهروا الإيمان {بالذي أنزل على الذين آمنوا} متابعة لهم {وجه} أي أول {النهار} سمي وجهاً لأنه أول ما يستقبلك منه وهو ما يظهر ولذا عبروا به عن الأول الذي يصلح لاستغراق النصف، لأن مرادهم التلبيس بظاهر لا باطن له، ولفظ لا حقيقة له، في جزء يسير جداً {واكفروا آخره} أي ليظنوا أنه لا غرض لكم إلا الحق، وأنه ما ردكم عن دينهم بعد ابتاعكم له إلا ظهور بطلانه {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن دينه {ولا تؤمنوا} أي توقعوا التصديق الحقيقي {إلا لمن تبع دينكم} فصوبوا طريقته وصدقوا دينه وعقيدته.
ولما كان هذا عين الضلال أمره سبحانه وتعالى أن يعجب من حالهم منبهاً على ضلالهم بقوله معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب: {قل إن الهدى هدى الله} أي المختص بالعظمة وجميع صفات الكمال، أي لا تقدرون على إضلال أحد منا عنه، ولا نقدر على إرشاد أحد منكم إليه إلا بإذنه، ثم وصل به تقريعهم فقال: {أن} بإثبات همزة الإنكار في قراءة ابن كثير، وتقديرها في قراءة غيره، أي أفعلتم الإيمان على الصورة المذكورة خشية أن {يؤتى أحد} أي من طوائف الناس {مثل ما أوتيتم} أي من العلم والهدى الذي كنتم عليه أول الأمر {أو} كراهة أن {يحاجوكم} أي يحاجكم أولئك الذين أوتوا مثل ما أوتيتم {عند ربكم} الذي طال إحسانه إليكم بالشهادة عليكم أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحوكم.
ولما كانت هذه الأية شبيهة بآية البقرة {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105] في الحسد على ما أوتي غيرهم من الدين الحق وكالشارحة لها ببيان ما يلبيسونه لقصد الإضلال ختمت بما ختمت به تلك، لكن لما قصد بها الرد عليهم في كلا هذين الأمرين اللذين دبروا هذا المكر لأجلهما زيدت ما له مدخل في ذلك فقال تعالى مجيباً لمن تشوف إلى تعليم ما لعله يكف من مكرهم ويؤمن من شرهم معرضاً عنهم بالخطاب بعد الإقبال عليهم به إيذاناً بشديد الغضب: {قل إن الفضل} في التشريف بإنزال الآيات وغيرها {بيد الله} المختص بأنه لا كفوء له، فله الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وأتبعه نتيجته فقال: {يؤتيه من يشاء} فله مع كمال القدرة كمال الاجتباء، ثم قال مرغباً مرهباً وراداً عليهم في الأمر الثاني: {والله} الذي له من العظمة وسائر صفات الكمال ما لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأوهام {واسع عليم} أي يوسع على من علم فيه خيراً، ويهلك من علم أنه لا يصلح لخير، ويعلم دقيق أمركم وجليله، فلا يحتاج سبحانه وتعالى إلى تنبيه أحد بمحاجتكم عليه عنده.
ولما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال: {يختص برحمته من يشاء} ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال: {والله} الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده {ذو الفضل العظيم} وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه.
فلما تقرر أن الأمر كله له ذكر دليل ذلك فيهم بأنه فضل فريقاً منهم فأعلاه، ورذل فريقاً منهم فأرداه، فلم يردهم الكتاب- وهم يتلونه- إلى الصواب، فقال عاطفاً على ما مضى من مخازيهم مقرراً لكتمانهم للحق مع علمهم بأنه الحق بأنه الخيانة ديدنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية منبهاً على أنهم وإن شاركوا الناس في انقسامهم إلى أمين وخائن فهم يفارقونهم من حيث ان خائنهم يتدين بخيانته ويسندها- مروقاً من ربقة الحياء- إلى الله، مادحاً للأمين منهم: {ومن أهل الكتاب} أي الموصوفين {من إن تأمنه بقنطار} أي من الذهب المذكور في الفريق الآتي {يؤده إليك} غير خائن فيه، فلا تسوقوا الكل مساقاً واحداً في الخيانة {ومنهم من إن تأمنه بدينار} أي واحد {لا يؤده إليك} في زمن من الأزمان دناءة وخيانة {إلا ما} أي وقت ما {دمت عليه قائماً} تطالبه به غالباً له بما دلت عليه أداة الاستعلاء، ثم استأنف علة الخيانة بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد من الكمال {بأنهم قالوا} كذباً على شرعهم {ليس علينا في الأميين} يعني من ليس له كتاب فليس على دينهم {سبيل}.
ولما كان الكذب من عظم القباحة بمكان يظن بسببه أنه لا يجترئ عليه ذو عقل فكيف على الله سبحانه وتعالى قال: {وهم يعلمون} أي ذوو علم فيعلمون أنه كذب.
ولما ادعوا نفي الجناح عنهم فيهم وبين تعالى أنهم لا يتحاشون عن الكذب صرح بكذبهم في هذا الأمر بخصوصه بقوله: {بلى} أي عليكم في خيانتهم لتحريم العذر عليكم مطلقاً، أي سبيل- كما هو في التوراة وقد مضى نقله في البقرة في آية {إن الذين آمنوا والذين هادوا} [البقرة: 62] وآية {وقولوا للناس حسناً} [البقرة: 83].
ولما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما، إن الله يبغض الخائن فقال: {من أوفى بعهده} في الدين والدنيا {واتقى} أي كائناً من كان {فإن الله} ذا الجلال والإكرام يحبه، هكذا الأصل، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحاملة له على الأمانة فقال: {يحب المتقين}.
ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضائق الأمانة، وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط في الإنذار فقال: {إن الذين يشترون} أي يلجون في أن يأخذوا على وجه العوض {بعهد الله} أي الذي عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذي عاهدهم على الإيمان به وذكر صفته للناس، وهو سبحانه أعلى وأعز من كل شيء فهو محيط بكل شيء قدرة وعلماً {وأيمانهم} أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل {ثمناً قليلاً} في الدنيا {أولئك} أي البعيدو الرتبة في الدناءة {لا خلاق} أي نصيب {لهم في الآخرة} أي لبيعهم له بنصيب الدنيا {ولا يكلمهم الله} أي الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته.
ولما زادت هذه عن آية البقرة العهد والحلف، وكان من عادة الحالف والمعاهد النظر إلى من فعل ذلك لأجله زاد قوله: {ولا ينظر إليهم} أي بل يعدهم أحقر شيء بما أعرضوا عنه، ولما كان لكثرة الجمع مدخل عظيم في مشقة الخزي قال: {يوم القيامة} الذي من افتضح في جمعه لم يفز {ولا يزكيهم} لأنهم لم يزكوا اسمه {ولهم} أي مع ذلك {عذاب أليم} يعرفون به ما جهلوا من عظمته.
ولما نسبهم إلى الكذب عموماً نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال: {وإن منهم لفريقاً} أي جبلوا على الفرقة، فهم لا يزالون يسعون في التفريق {يلون} أي يفتلون ويحرفون {ألسنتهم بالكتاب} بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر- مثلاً بأن يقولوا في {اعبدوا الله} [المائدة: 72 وغيرها] اللات، وفي {لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام: 151] بالحد، وفي «من زنى فارجموه» فارحموه بالمهملة، أو فحمموه، أو اجلدوه- ونحو هذا.
ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيراً عن السماع منهم وتنبيهاً على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال: {لتحسبوه} أي الذي لوى به اللسان فحرف {من الكتاب} أي المنزل من عند الله، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال: {ما هو من الكتاب} أعاده ظاهراً تصريحاً بالتعميم.
ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال: {ويقولون} أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا {وهو من عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال، ثم صرح بكذبهم بقوله- مبعداً لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهراً في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال: {وما هو} أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته {من عند الله} أي الذي له الإحاطة العامة، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره.
ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحاً بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحاً أخبر بأن ذلك عادة لهم، لا يقفون منه عند عد، ولا ينحصرون فيه بحد، فقال: {ويقولون على الله} أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم {الكذب} أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص، ولما كان الكذب قد يطلق على ما لم يتعمد، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله: {وهم يعلمون} أي أنه كذب، لا يشكون فيه.


ولما فرغ من بيان ما أراد من كتمانهم للحق مع الإشارة إلى بعض توابعه إلى أن ختم بأنهم لا يتحاشون من الكذب على الله المقتضي للكذب على الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم، لأنهم لا علم لهم بقول الله سبحانه وتعالى إلا بواسطة الأنبياء عليهم السلام، ومهما كان القول كذباً على الله سبحانه وتعالى اقتضى أن يكون تعبداً للمنسوب إليه من دون الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي شرعه، وذلك موجب لأن يدعي أن النبي دعا إليه عبادته من دون الله سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن اوضح سبحانه وتعالى من صفات عيسى عليه الصلاة والسلام المقتضية لنفي الإلهية عنه ما لا يخفى على ذي لب شرع يبين أنهم كاذبون فيما يدعونه في عيسى عليه الصلاة والسلام، فنفي أن يكون قال لهم ذلك أو شيئاً منه على وجه شامل له ولكل من اتصف بصفته وبسياق هو بمجرده كاف في إبطال قولهم فقال: {ما كان} أي صح ولا تصور بوجه من الوجوه {لبشر} أي من البشر كائناً من كان من عيسى وعزير عليهما الصلاة والسلام وغيرهما {أن يؤتيه الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الكتاب والحكم} أي الحكمة المهيئة للحكم، وهي العلم المؤيد بالعمل والعمل المتقن بالعلم، لأن أصلها الإحكام، وهو وضع الشيء في محله بحيث يمتنع فساده {والنبوة} وهي الخبر من الله سبحانه وتعالى المقتضي لأتم الرفعة، يفعل الله به ذلك الأمر الجليل وينصبه للدعاء إلى اختصاصه الله بالعبادة وترك الأنداد {ثم} يكذب على الله سبحانه وتعالى بأن {يقول للناس كونوا عباداً لي}.
ولما كان ذلك قد يكون تجوزاً عن قبول قوله والمبادرة لامتثال أمره عن الله سبحانه وتعالى احتراز عنه بقوله: {من دون الله} أي المختص بجميع صفات الكمال إذ لا يشك عاقل أن من أوتي نبوة وحكمة- وهو بشر- في غاية البعد عن ادعاء مثل ذلك، لأن كل صفة من صفاته- لا سيما تغير بشرته الدالة على انفعالاته- مستقلة بالإبعاد عن هذه الدعوى، فلم يبق لهم مستند، لا من جهة عقل ولا من طريق نقل، فصار قول مثل ذلك منافياً للحكمة التي هو متلبس بها، فصح قطعاً انتقاؤه عنه.
ولما ذكر ما لا يكون له أتبعه ما له فقال: {ولكن} أي يقول: {كونوا ربانيين} أي تابعين طريق الرب منسوبين إليه بكمال العلم المزين بالعمل، والألف والنون زيدتا للإيذان بمبالغتهم في المتابعة ورسوخهم في العلم اللدني، فإن الرباني هو الشديد التمسك بدين الله سبحانه وتعالى وطاعته، قال محمد بن الحنفية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما مات: مات رباني هذه الأمة: {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي بسبب كونكم عالمين به معلمين له {وبما كنتم تدرسون} فإن فائدة الدرس العلم، وفائدة العلم العمل، ومنه الحث على الخير والمراقبة للخالق.
ولما نفي أن يكون الحكيم من البشر داعياً إلى نفسه وأثبت أنه يكون ولا بد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى لتظهر حكمته أثبت أن ذلك لا بد وأن يكون على وجه الإخلاص، لأن بعض الشياطين يحكم مكره بإبعاد التهمة عن نفسه بالدعاء إلى إلى غيره على وجه الشرك لا سيما إن كان ذلك الغير ربانياً كعيسى عليه الصلاة والسلام فقال: {ولا يأمركم} أي ذلك البشر {أن تتخذوا} أتى بصيغة الافتعال إيذاناً بأن الفطر مجبولة على التوجه لله سبحانه وتعالى من غير كلفة {الملائكة والنبيين} فضلاً عن غيرهم {أرباباً} أي مع الله سبحانه وتعالى أو من دونه، ثم بين أن كل عبادة كان فيها أدنى شائبة فهي باطلة بقوله على طريق الإنكار تبرئة لعبادة الخلص من مثل ذلك: {أيأمركم بالكفر} إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غني، لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه {بعد إذ أنتم مسلمون} أي منقادون لأحكامه، أو متهيئون للتوحيد على عليّ الفطرة الأولى.
ولما بين سبحانه وتعالى فيما مضى أن التولي عن الرسل كفر، وذكر كثيراً من الرسل فخص في ذكرهم وعمم، ذكر قانوناً كلياً لمعرفة الرسول عنه سبحانه وتعالى والتمييز بينه وبين الكاذب فقال عاطفاً على {إذ أنتم مسلمون} {وإذ أخذ الله} أي الذي له الكمال كله {ميثاق النبيين} أي كافة، والمعنى: ما كان له أن يقول ذلك بعد الإنعام عليكم بالإسلام والإنعام عليه بأخذ الميثاق على الناس- الأنبياء وغيرهم- بأن يؤمنوا به إذا آتاهم، فيكون بذلك الفعل مكفراً لغيره وكافراً بنعمة ربه، وهذا معنى قوله: {لما} أي فقال لهم الله: لما {آتيتكم} وقراءة نافع: آتيناكم، أوفق لسياق الجلالة- قاله الجعبري {من كتاب وحكمة} أي أمرتكم بها بشرع من الشرائع، فأمرتم بذلك من أرسلتم إليه {ثم جآءكم رسول} أي من عندي، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده فقال: {مصدق لما معكم} أي من ذلك الكتاب والحكمة {لتؤمنن به} أي أنتم وأممكم {ولتنصرنه} أي على من يخالفه، فكأنه قيل: إن هذا الميثاق عظيم، فقيل: إنّ، زاد في تأكيده اهتماماً به فقال: {قال ءأقررتم} أي يا معشر النبيين {وأخذتم على ذلكم} أي العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع {إصري} أي عهدي، سمي بذلك لما فيه من الثقل، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق والتوثق، ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن عهد التقيد بنوع من القيود، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا أقررنا} أي بذلك، فقيل: ما قال؟ فقيل {قال فاشهدوا} أي يا أنبياء! بعضكم على بعض، أو يا ملائكة! عليهم {وأنا معكم من الشاهدين فمن} أي فتسبب عنه أنه من {تولى} أي منكم أو من أممكم الذي بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر.
ولما كان المستحق لغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال: {بعد ذلك} أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة {فأولئك} أي البعداء من خصال الخير {هم الفاسقون} أي المختصون بالخروج العظيم عن دائرة الحق.
ولما كان المدرك لكل نبي إنما هم أمة النبي الذي قبله، وكانوا يكذبونه ويخالفونه قال- خاتماً لهذه القصص بعد الشهادة بنفسه المقدسة بما بدأها به في قوله: {شهد الله} الآية إلى {إن الدين عند الله الإسلام} على وجه الإنكار والتهديد عاطفاً على ما دل عليه السياق-: {أفغير} أي أتولوا ففسقوا، فتسبب عن ذلك أنهم غير دين الله، وأورد بأن تقديم غير يفهم أن الإنكار منحط على طلبهم اختصاصاً لغير دين الله، وليس ذلك هو المراد كما لا يخفى، وأجيب بأن تقديمه الاهتمام بشأنه في الإنكار، والاختصاص متأخر مراعاته عن نكبة غيره- كما تقرر في محله {دين الله} الذي اختص بصفات الكمال {يبغون} أي يطلبون بفسقهم، أو أتوليتم- على قراءة الخطاب {وله} أي والحال أنه له حاصة {أسلم} أي خضع بالانقياد لأحكامة والجري تحت مراده وقضائه، لا يقدرون على مغالبة قدره بوجه {من في السموات والأرض} وهم من لهم قوة الدفاع بالبدن والعقل فكيف بغيرهم {طوعاً} بالإيمان أو بما وافق أغراضهم {وكرهاً} بالتسليم لقهره في إسلام أحدهم وإن كثرت أعوانه وعز سلطانه إلى أكره ما يكره وهو صاغر داخر، لا يستطيع أمراً ولا يجد نصراً {وإليه يرجعون} بالحشر، لا تعالجون مقراً ولا تلقون ملجأ ولا مفراً، فإذا كانوا كذلك لا يقدرون على التفصي من قبضته بنوع قوة ولا حيلة في سكون ولا حركة فكيف يخالفون ما أتاهم من أمره على ألسنة رسله وقد ثبت أنهم رسله بما أتى به كل منهم من المعجزة! ومن المعلوم أن المعاند للرسول صلى الله عليه وسلم معاند للمرسل.
ولما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله، ثم هدد من تولى، فكان السامع جديراً بأن يقول: أنا مقبل غير متول فما اقول وما أفعل؟ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم: {قل} أي قبل كل شيء، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل {آمنا} أنا ومن أطاعني من أمتي- مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال: {بالله} الذي لا كفوء له.
ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال: {وما أنزل علينا} فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد {وما أنزل على إبراهيم} أي أبينا {وإسماعيل وإسحاق} أي ابنيه {ويعقوب} ابن إسحاق {والأسباط} أي أولاد يعقوب.
ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزات الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله: {وما أوتي موسى} من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة {وعيسى} من ذرية داود من الإنجيل والشريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان النظر هنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به وأغرق فيه ناسب الإعراء عن التأكيد بما في البقرة، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال: {والنبيون} أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه {من ربهم} أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله: {لا نفرق بين أحد منهم} تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى {ونحن له} أي لله وما أنزل من عنده {مسلمون} أي منقادون على طريق الإخلاص والرضى.
ولما أمر سبحانه وتعالى بإظهار الإيمان بهذا القول، وكان ذلك هو الإذعان الذي هو الإسلام قال- محذراً من الردة عنه عاطفاً على {آمنا} ومظهراً لما من حقه الإضمار لولا إرادة التنبيه على ذلك مشيراً بصيغة الافتعال إلى مخالفة الفطرة الأولى-: {ومن يبتغ} أي يتطلب {غير} دين {الإسلام} الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساسها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل أو مجازاً بالكون على الفطرة الأولى بما أشعر به الابتغاء- كما تقدم، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له {ديناً} وأتى بالفاء الرابطة إعلاماً بأن ما بعدها مسبب عما قبلها ومربوط به فقال: {فلن يقبل منه} أي في الدنيا، وأشعر ترتيب هذا على السبب بأنه يرجى زوال السبب لأنه مما عرض للعبد كما جرى في الردة في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه رجع إلى الإسلام أكثر المرتدين وحسن إسلامهم، وقوله: {وهو في الآخرة من الخاسرين} معناه: ولا يقبل منهم في الآخرة، مع زيادة التصريح بالخسارة- وهي حرمان الثواب- المنافية لمقاصدهم، والقصد الأعظم بهذا أهل الكتاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم وتوقعهم له، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بخسارة من ارتد عن الإسلام شرع يستدل على استحقاقه لذلك بقوله: {كيف يهدي الله} مع ما له من كمال العظمة {قوماً} أي يخلق الهداية في قلوب ناس بهم قوة المحاولة لما يريدونه {كفروا} أي أوقعوا الكفر بالله ربهم وبما ذكر مما أتت به رسله إعراضاَ عنه وعنهم، ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار: {بعد إيمانهم} بذلك كله {وشهدوا} أي وبعد أن شهدوا {أن الرسول حق} بما عندهم من العلم به {وجاءهم البينات} أي القاطعة بأنه حق وأنه رسول الله قطعاً، لا شيء أقوى من بيانه ولا أشد من ظهوره بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء.
ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيان لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحاً لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد: أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله: {والله} أي الذي له الكمال كله {لا يهدي القوم الظالمين} أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك، تحذيراً من مطلق الظلم، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {جزاؤهم أن عليهم لعنة الله} أي الملك الأعظم، وهي غضبه وطرده {والملائكة والناس أجمعين} حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظاناً أنه ليس بكافر، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيئ، وحذراً من فعل مثل ذلك معه {خالدين فيها} أي اللعنة دائماً.
ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله: {لا يخفف عنهم العذاب} مفيداً ان عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة. ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتاً ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله: {ولا هم ينظرون} أي يؤخرون للعلم بحالهم باطناً وظاهراً حالاً ومآلاً، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه، لم يترك شيء نمها لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان.
ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم- وإن استبعد رجوعهم- موضعاً للرجاء بقوله: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} الارتدار حيث تقبل التوبة {وأصلحوا} أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة {فإن الله} أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله {غفور} يمحو الزلات {رحيم} بإعطاء المثوبات، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه.
ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال: {إن الذين كفروا} أي بالله وأوامره، وأسقط الجار لما مضى من قوله: {من بعد إيمانهم} بذلك. ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه! وعبر عن ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم ازدادوا كفراً} أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا بالتوبة {لن تقبل توبتهم} أي إن تابوا، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لأنهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة، فلا يتوبون أبداً توبة صحيحة، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب {وأولئك هم} أي خاصة {الضالون} أي الغريقون في الضلال وإليه أشار {ولو أسمعهم لتولوا} [الأنفال: 23] لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه!
ولما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجوعهم تشوف السامع إلى حالهم في الآخرة فقال مبيناً لهم أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر: {إن الذين كفروا} أي هذا الكفر أو غيره، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام: التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا، والتائبون توبة فاسدة، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة، ولذا قال: {وماتوا وهم كفار} ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان، وربطه بالفاء فقال: {فلن يقبل} أي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه {من أحدهم} أي كائناً من كان {ملء الأرض ذهباً} أي من الذهب لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أوهدية أو غير ذلك {ولو افتدى به} لو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» فكونه جاء على فرس يؤذن بغناه، فلا يناسب أن يعطى فنص عليه؛ وأما هنا فلما كان قبول الفدية واجباً عند أهل الكتاب- كما مر في قوله سبحانه وتعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} [البقرة: 85] كان بحيث ربما ظن أن بذله- على طريق الافتداء يخالف بذله على غير ذلك الوجه حتى يجب قبوله، فنص عليه؛ وأيضاً فحالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدى- قاله أبو حيان. فالمعنى: لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة، أي لا يقبل منه شيء؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري في محاوراتهم- والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله: {أولئك} أي البعداء من الرحمة {لهم عذاب أليم} ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال: {وما لهم من ناصرين} أي ينصرونهم بوجه من الوجوه، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ.


ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]- وما بعد ذلك إنما جرّه- ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله: {لن تنالوا البر} وهو كمال الخير {حتى تنفقوا} أي في وجوه الخير {مما تحبون} أي من كل ما تقتضون، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى.
ولما كان التقدير: فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً: {وما تنفقوا من شيء} أي من المحبوب وغيره {فإن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة. وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك- هل تعلم كذا: لا أعلم إلا هو، فقال: {به عليم} فهذا كما ترى احتباك.
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى: {كل الطعام} أي من الشحوم مطلقاً وغيرها {كان حلاًّ لبني إسرائيل} أي أكله- كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة {إلا ما حرم إسرائيل} تبرراً وتطوعاً {على نفسه} وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم. ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا: إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال: {من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً له. وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال: {أن تنزل التوراة} وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده- كما تقدم ذلك في البقرة عند {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89].
ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون: لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال: {قل} أي لليهود {فأتوا بالتوارة فاتلوها} أي لتدل لكم {إن كنتم صادقين} فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا {فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جداً {فأولئك} أي الأباعد الأباغض {هم} خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية {الظالمون} أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة.
ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم- لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب- أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل} أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم {صدق الله} أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى: {فاتبعوا ملة إبراهيم} وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله: {حنيفاً} أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف. ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً. على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال: {وما كان من المشركين} أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى.
ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى: {إن أول بيت} أي من البيوت الجامعة للعبادة {وضع للناس} أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولعل بناء وضع، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام {للذي ببكة} أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم؛ حال كونه {مباركاً} أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا {وهدى للعالمين} أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم.
وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين المؤالفة، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام- كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم- كما روي من غير طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه! ثم فسر الهدى بقوله: {فيه آيات بينات} وقوله: {مقام إبراهيم} أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف- أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر {إن} في قوله: {للذي ببكة} فكأنه قيل: إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم، وأعربه غيره بدل بعض من قوله: {آيات} وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى: {ومن دخله} أي فضلاً عن أهله {كان آمناً} أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن وأمن داخله لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة.
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى: {ولله} أي الملك الذي له الأمر كله {على الناس} أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول- كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في {استطعما أهلها} [الكهف: 77] في الكهف، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم {حج البيت} أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة: {من استطاع} أي منهم {إليه سبيلاً} فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير: ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله: {ومن كفر} أي بالنعمة أو بالدين {فإن الله} اي الملك الأعلى {غني} ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه: {عن العالمين} أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات {ومن كفر} ثانياً يدل على إيمان من حجه.
ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً، ولم يبق لمتعنت شبهة، ولم يبادروا الإذعان، بل زادوا في الطغيان، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده: {قل} وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال: {يا أهل الكتاب} أي من الفريقين {لم تكفرون} أي توقعون الكفر {بآيات الله} أي وهي- لكونه الحائز بجميع الكمال- البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً {والله} أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به {شهيد على} كل {ما تعملون} أي لكونه يعلم سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم. ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال: {قل يا آهل الكتاب} أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم {لم تصدون} أي بعد كفركم {عن سبيل الله} أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه اهتماماً به. ثم ذكر المفعول فقال: {من أمن} حال كونكم {تبغونها} أي السبيل {عوجاً} أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} [آل عمران: 65] {يا أهل الكتاب لم تكفرون} [آل عمران: 70] والآية التي بعدها بغير واسطة. وقال أبو البقاء في إعرابه: إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل، لأن فيها ضميرين راجعين إليها، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما، وعوجاً حال- انتهى. وقال صاحب القاموس في بنات الواو: بغا الشيء بغواً: نظر إليه كيف هو، وقال في بنات الياء: بغيته أبغيه: طلبته، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً- كما قال أبو البقاء- أصوب من جعله مفعولاً- كما قال في الكشاف. ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه: تريدونها معوجة أو ذات عوج، فإن طلب بمعنى: أراد؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى: ترونها ذات عوج، أي تجعلونها في نظركم يعني: تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها، لكن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بهن» يؤيد قول صاحب الكشاف.
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً: {وأنتم شهداء} أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة. ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال: {وما الله} أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها {بغافل} أي أصلاً {عما تعملون} ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم، أقبل بالبشر على أحبائه، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه، محذراً لهم الاغترار بالمضلين، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود، فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إن تطيعوا فريقاً} أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به {من الذين أوتوا الكتاب} أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه {يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد: {بعد إيمانكم كافرين} أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها!.
ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال- عاطفاً على ما تقديره: فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم: {وكيف تكفرون} أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {وأنتم تتلى} أي تواصل بالقراءة {عليكم آيات الله} أي علامات الملك الأعظم البينات {وفيكم رسوله} الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه {ومن} أي والحال أنه من {يعتصم} أي يجهد نفسه في ربط أموره {بالله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان. ولما كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال: {فقد هدى} وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين {إلى صراط مستقيم}.
ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اتقوا الله} أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام {حق تقاته} فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه {ولا تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم مسلمون} أي منقادون أتم الانقياد، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد، وقوله سبحانه وتعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] في فروعه.
ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم- بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال: {واعتصموا} أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم {بحبل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح وهذا الدين مثاله فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله.
ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله: {جميعاً} لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله: {ولا تفرقوا} ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال: {واذكروا نعمة الله} الذي له الكمال كله {عليكم} يا من اعتصم بعصام الدين! {إذا كنتم أعداء} متنافرين أشد تنافر {فألف بين قلوبكم} بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم {فأصبحتم بنعمته إخواناً} قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن.
ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال: {وكنتم على شفا} أي حرف وطرف {حفرة من النار} بما كنتم فيه من الجاهلية {فأنقذكم منها}.
ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله- جواباً لمن يقول: لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان!- {كذلك} أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال {يبين الله} المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته {لكم آياته} وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه. ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله: {لعلكم تهتدون} أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8